كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيًا ما كان فقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ المقربون}، مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني، وقيل: {السابقون} [الواقعة: 10] السابق مبتدأ {والسابقون} اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضًا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى: {فأصحاب} [الواقعة: 8] إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل والسابقون ما السابقون على منوال الأولين لأنه جعل أمرًا مفروغًا مسلمًا مستقلًا في المدح والتعجيب، والإشارة بأولئك إلى السابقين ومافيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، و{المقربون} من القربة بمعنى الحضوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى، وقال غير واحد: المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.
هذا وفي الأرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه: {وأصحاب المشئمة} وقوله جل شأنه: {والسابقون} فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام.
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلًا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عنت ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباءًا إجماليًا مشعرًا بأن لأحوال كل منهما تفصيلًا مترقبًا لكن لا على أن {مَا} الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على مارآه سيبويه في أمثال بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون {مَا} خبرًا لا بيان أن أمرًا بديعًا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في {مَا أصحاب المشئمة} [الواقعة: 9] وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى: {السابقون} مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم و{أولئك} مبتدأ ثان، أو بدل من الأول وما بعده خبر له، أو للثاني، والجملة خبر للأول انتهى، وقيل عليه: أنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه: {السابقون} إخبارًا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلًا حتى يقال: حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.
وأيضًا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر {مَا أصحاب اليمين} و{مَا أصحاب الشمال} [الواقعة: 14] في التفصيل، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للاعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولًا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقًا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل: فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم {مَا أصحاب الميمنة} وكذا يقال في {وأصحاب المشئمة} الخ، ويجعل أيضًا {السابقون} صفة للسابقون قبله، والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائمًا مقام تينك الجملتين في المدح، والجملة بعد مستأنفة استئنافًا بيانيًا كما في الوجه الشائع، وما يقال: إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون أل في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: {فِي جنات النعيم} متعلق بالمقربون، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر، أو نهي ولذا قيل: {فِي جنات النعيم} دون جنات الخلود ونحوه، وقيل: خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الاخبار بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية.
وقرأ طلحة {في جنة النعيم} بالافراد، وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)} خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة الخ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو خبرًا أولًا أو ثانيًا لأولئك وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر {على سُرُرٍ} [الواقعة: 15]، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلّت، وقال الزمخشري: الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله:
وجاءت إليهم ثلة خندفية ** بجيش كتيار من السيل مزبد

وقوله تعالى بعد: {وَقَلِيلٌ} [الواقعة: 14] إلخ كفى به دليلًا على الكثرة انتهى، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدًا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التفنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليهاأدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن الاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام.
{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} وهم الناس من لدن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.
وحاصل ذكل غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين} [الواقعة: 39-40] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون، وقد عبر كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لأدلة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا.
وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال: إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين} [الواقعة: 39-40] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني» وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته بالكثرة، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إذًا لا يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين} فنسخت {وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} وأبى ذلك الزمخشري فقال: إن الرواية غير صحيحة لأمرين: أحدهما: أن الآية الأولى واردة في السابقين، والثانية: في أصحاب اليمين، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقًا هو المختار.
وقيل: يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والاخبار يتبعه، وعلى هذا البيضاوي، وقيل: يجوز عن الماضي أيضًا وعليه الإمام الرازي.
والآمدي، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقًا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظاهر خبر أبي هريرة الثاني، ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول (صاحب الكشف): لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكمًا شرعيا لا يخلو عن شيء.
وأقول: قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلًا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين} وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى.
وقول أبي هريرة فنسخت {وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: الفرقتان أي في قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل، وقيل: هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين.
وقال أبو حيان: جاء في الحديث: «الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل» انتهى.
وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك، أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: {ثُلَّةٌ مّنَ الاولين وَثُلَّةٌ مّنَ الاخرين} قال: هما جميعًا من هذه الأمة، وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا ما لفظه هما جميعًا من أمتي؛ وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثلاثة} [الواقعة: 7] لهذه الأمة فقط.
{على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى: {فِي جنات النعيم} [الواقعة: 12] بناءًا على أنه في موضع الحال كما تقدم، وقيل: هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولًا بثلة وفيه وجه آخر أشرنا إلينا فيما مر، {وموضونة} من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ** تسير مع الحي عيرًا فعيرا

واستعير لمطلق النسخ أو لنسج محكم مخصوص، ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول؛ والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب، وفي رواية عنه بقضبان الفضة، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وقيل: {سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} متصل بعضها ببعض كحلق الدرع، والمراد متقاربة، وقرأ زيد بن علي وأبو السمال {سُرُرٍ} بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم، وكلب يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف نحو سرير.